وصايا الكواكبي للثورة السورية

سرَدَ الكواكبي في كتابه الخالد ” طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد ” سِمات الحُكم الاستبدادي وتأثيره العميق على المستبد وعلى الخاضعين له. وفي الفصل الأخير من الكتاب، تحدَّث الكواكبي عن ” الاستبداد والتخلص منه”، وذكَر شروطًا ثلاثة للتخلّص السليم من مرض الاستبداد، فقال إنّ:

1 – الأمة التي لا يَشعر كلّها أو أكثرها بآلام الاستبداد لا تستحق الحرية.

2 – الاستبداد لا يُقاوَم بالشدّة، بل باللين والتدرّج.

3 – يجب قَبل مقاومة الاستبداد تهيئة ماذا يُستبدَل به الاستبداد.

فقال في مَبحث ” الأمة التي لا يَشعر كلّها أو أكثرها بآلام الاستبداد لا تستحق الحريةإنّ:

” الأمة إذا ضُرِبتْ عليها الذّلَة والمَسكنَة، وتوالَتْ على ذلك القرون والبطون، تصير تلك الأمة سافِلةَ الطِّباع  … حتى أنها تصير كالبهائم أو دون البهائم، فلا تَسألُ عن الحرية، ولا تَلتمسُ العدالة، ولا تَعرِفُ للاستقلال قيمة، أو للنظام مزيّة، ولا تَرى لها في الحياة وظيفة غير التّبعية للغالِب عليها، أحسَنَ أو أساء على حدٍّ سواء. وقد تَنقم على المستبِد نادرًا، ولكنْ طلبًا للانتقام مِنْ شخصه لا طلبًا للخلاص مِنَ الاستبداد، فلا تَستفيد شيئًا ، إنما تَستبدِل مَرضًا بمَرض … وقد تُقاوِم المستبِد بسَوقِ مستبِدٍ آخر تَتَوسَّم فيه أنه أقوى شوكَةً مِنَ المستبِد الأول … فلا تَستفيد شيئًا ، إنما تَستبدِل مَرضًا مزمنًا بمرضٍ حاد. وربما تَنال الحرية عَفوًا، فكذلك لا تَستفيد شيئًا … ولا تلبث الحرية أن تنقلب إلى فوضى … أو إلى استبدادٍ أشدّ وَطأة … ولهذا قرَّر الحكماء أنّ الحرية التي تَنفع الأمة هي التي تَحصل عليها بعد الاستعداد لقبولها … فإذا وُجِدَ في الأمة الميتة مَنْ تدفعه شهامتُه للأخذ بيدها والنهوض بها، فعَليه أولًا أن يَبثَّ فيها الحياة … ويعلِّمها أنّ حالتها سيئة، إنما يمكِنها تبديلها بخير منها. فإذا هي علِمتْ، يَبتدئُ فيها الشعور بآلام الاستبداد، ثم يَتَرقّى هذا الشعور … حتى يشمل أكثر الأمة، وتَصل مَنزلةَ ما قاله المعري :

إذا لمْ تَقمْ بالعدلِ فينا حكومةٌ              فنحن على تغييرها قُدَرَاءُ”

تُذ كِّرنا تنبيهات الكواكبي عن تهالك الأمّة المتَخَلِّفة نحو الاستبداد بما تَحدّث عنه المفكّر مالك بن نبي والمفكّر فرانز فانون عن ” القابلية للاستعمار” لدى بعض الشعوب المتخلّفة.

كما تحدَّث الكواكبي في باب أنّ “الاستبداد لا يُقاوم بالشدّة، بل باللين والتدرّج عن أهمية سياسة اللاعنف في مقاومة الاستبداد قَبل غاندي بعقود حين كتَب: ” الاستبداد لا يُقاوَم بالشدة، إنما يُقاوَم بالحكمة والتدرّج، لأنّ الاستبداد مَحفوفٌ بأنواع القوّات، كقوة الجُند، والمال، والألفة على القسوة، ورجال الدِين، وأهل الثروات والأنصار مِنَ الأجانب … فهذه القوّات تجعل الاستبداد كالسيف لا يُقابَلُ بالعَصا …! الاستبدادُ لا يُقاوَم بالعنف كي لا تكون فتنة تَحصد الناس حَصدًا … الاستبدادُ قد يَبلغ مِنَ الشدة درجةً تنفجر عندها الفتنة انفجارًا طبيعيًّا ، فإذا كان في الأمة عُقلاء، فهُم يَتباعدون عنها ابتداءً، حتى إذا سَكنتْ ثورتها نوعًا، وقَضَتْ وظيفتها في حَصد المنافقين، حينئذ يَستعملون الحكمة في توجيه الأفكار نحو تأسيس العدالة … بإقامة حكومةٍ لا عَهدَ لِرجالها بالاستبداد، ولا علاقة لهم بالفتنة”.

أما عن نصيحته: “ يجب قَبل مقاومة الاستبداد تهيئة ماذا يُستبدَل به الاستبداد”  فقد شدَّد الكواكبي على أهمية وجود اتفاق بين غالبية الناس على الخطوط الرئيسية العامة لما سيُستبدَل به الاستبداد، ونبَّه إلى خطورة عدم الاتفاق على ذلك قائلًا: ” لا بد مِنْ تعيين المَطلب والخطّة تَعيينًا واضِحًا موافِقًا لرأي الكلّ، أو لرأي الأكثرية … وإلا فلا يتمّ الأمر، حيث إذا كانت الغاية مبهَمَة نوعًا، يكون الإقدام ناقصًا نوعًا، وإذا كانت مجهولَة بالكلية عند قِسم مِنَ الناس، أو مخالفة لرأيهم، فهؤلاء يَنضمّون إلى المستبِد فتكون فتنة شَعواء، وإذا كانوا يَبلغون مقدار الثلث فقط، تكون حينئذ الغَلبة في جانب المستبِد … ثم إذا كانت الغاية مبهَمة، ولمْ يكن السير في سبيل معروف، ويوشك أن يقعَ الخِلاف في أثناء الطريق، فيفسد العمل أيضًا، وينقلب إلى انتقام وفِتن … ولذا يجب تعيين الغاية بصراحةٍ وإخلاص، وإشهارها بين الكافّة، والسعي في إقناعهم واستحصال رضائهم ما أمكَن ذلك … والمُراد أن مِنَ الضروري تقرير شَكل الحكومة التي يُراد ويُمكنُ أن يُستبدَل بها الاستبداد، وليس هذا بالأمر الهيّن الذي تكفِيه فكرة ساعات، أو فطنة آحاد، وليس هو بأسهَل مِنْ ترتيب المقاومة والمغالَبة. وهذا الاستعداد النظري لا يجوز أن يكون مَقصورًا على الخَواصّ، بل لا بد مِنْ تعميمه … ليكون بعيدًا عن الغايات، ومُعَضّدًا بقبول الرأي العام … وخلاصة البحث أنه يلزم أولًا تنبيهُ حسّ الأمة بآلام الاستبداد، ثم يلزم حَملها على البحث في القواعد الأساسية للسياسة المناسبة لها بحيث يَشغل ذلك أفكار كلّ طبقاتها، والأولى أن يبقى ذلك تحت مَخض العقول سِنين، بل عشرات السنين حتى يَنضج تمامًا، وحتى يحصل ظهور التلهّف الحقيقي على نوال الحرية في الطبقات العليا، والتَّمني في الطبقات السفلى … وإذا نَكَّل المستبدُ بالمجاهدين وتكالَب، فحينئذ إما أن تَغتَنم الفرصة دولة أخرى فتَستولي على البلاد … وإما أن يُساعِد الحظّ بعدم وجود طامع أجنبي، وتكون الأمة قد تأهّلتْ للقيام بأن تَحكم نفسَها بنفسِها، وفي هذه الحال، يمكن لعقلاء الأمة أن يُكلّفوا المستبِد ذاته لِترك أصول الاستبداد واتبّاع القانون الأساسي الذي تَطلبه الأمة … وإن أصرَّ المستبِدُ على القوة، قَضوا بالزوال على دولَته … فليتبصَّر العقلاء، وليتَّق الله المغرورون، وليَعلموا أنّ الأمر صَعب، ولكنّ تصور الصعوبة لا يَستلزِم القنوط، بل يُثير همّة الرَّجل الأشمّ “.

هل تنطبق نصائح الكواكبي على الثورة السورية؟

يتَّضح لنا فَور قراءة نصائح الكواكبي وتحليلاته بشأن التخلص من الاستبداد أنّ الثورة السورية لَم تحقّق شروطه لنجاح هذه الجهود، فقد أهمَلت الحصول على تأييد غالبية كافية عند الشعب السوري بكافة أطيافه، بل كان في بعض شعاراتها المَرفوعة شعارات طائفية وإقصائية أحيانًا. كما أنها لم تتمسَّك بالمَسار السلمي الذي بدأت به، بل اندفعَتْ، أو دُفِعتْ، وراء الكفاح المسلح، وسَعتْ نحو الدَّعم الخارجي في سبيل تحقيق ذلك، فوقَعتْ في مصيدة النظام الغاشم.

وأخيرًا، لم يكن هنالك اتفاق واضح بين الثائرين حول النظام البديل الذي نَسعى إليه، فرفَع بعضهم شعارات إسلامية متشددة، ورَفع آخرون شعارات مدَنية ديموقراطية، وفي غمرة الاندفاع وراء مشاعر القهر، وصرخات الألَم ضد الظلم، كان هَمُّ الغالبية العظمى من الثوار هو التخلص من الطغيان أولًا وقَبل كل شيء، ومن ثمّ يُمكننا أن نتفّق. ولكن هل كان في ذلك حكمة الكواكبي ورؤيته التاريخية؟

د. عامر شيخوني

16/8/2023